إن الطموحات الجيوسياسية المتصادمة للدولتين تغذي خصومة قد تكون أشد خطورة من الحرب الباردة الأصلية .
الصحيفة : " ذا ديبلومانت "
الكاتب : الدكتور" آلان دوبونت " : زميل أبحاث في مؤسسة هينريتش و المدير التنفيذي لشركة الاستشارات في مجال المخاطر الجيوسياسية ، و كان مستشارا لعدد من وزراء الدفاع و الخارجية الاستراليين .
التاريخ : July 08, 2020
إن الصدع بين الولايات المتحدة و الصين يهدد بالتحول إلى هوة شاسعة ، فبالكاد يمر يوم واحد دون تبادل انتقامي للانتقادات اللاذعة أو الإتهامات أو أي أعمال تجعل الحياة صعبة على الدولة الأخرى ، و لا يخلو الأمر أيضا من التغني بتفوق الأنظمة السياسية لكل منها على الأخرى .
فلقد انتقدت الولايات المتحدة الصين بشدة بسبب التعقيم القسري لنساء الايغور؛ و مارست الضغوط على أوروبا لحملها على حظر شركة الفحص الأمني الصينية " نوكتيك " ؛ و فرضت قيوداً على منح تأشيرات الدخول على المسؤولين الصينيين الذين يحملون المسؤولية عن قانون الأمن القومي الجديد في هونج كونج ؛ و فرضت أيضا قيوداً لمدة تسعين يوم على تأشيرات العمل الخاصة بالصحافيين الصينيين ، و في مقابل ذلك وصفت وزارة الخارجية الصينية الانتقادات الأميركية لسياسة الايغور بأنها " لا أساس لها من الصحة " في حين تقول لواشنطن بكل وضوح أن لا تتدخل في شؤون هونج كونج ، و لقد كانت بكين قد سحبت في وقت سابق أوراق الاعتماد الصحفية للصحفيين في ثلاث صحف أمريكية بارزة و هددت بوضع الشركات الأمريكية على قائمة الكيانات الأجنبية المحظورة .
و لقد تفاجأ كثيرون بهذا الانحدار السريع إلى الصراع بين الدولتين ، فالمنافسة الصينية الأميركية كانت في هذا القرن خاضعة لإدارة الحاجة إلى العمل الجماعي في إطار مجموعة من القضايا الاقتصادية و المالية و الجيوسياسية العالمية التي أجبرت كلا الدولتين على التعاون المشترك ، و لكن هذه الدوافع التعاونية اختفت بالكامل تقريبا بفعل تبادل الاتهامات بشأن المسؤولية عن وباء فيروس كورونا ، الذي كشف عن عمق انعدام الثقة المتبادل بين الطرفين .
و ترى بكين أن واشنطن عازمة على احتواء الصين لإطالة أمد انحدار سلطة الولايات المتحدة مع حرمان الصين من مكانتها التي تستحقها في العالم ، و يعتقد الأمريكيون بشكل متزايد أن بكين تهدد المصالح الأمنية الأمريكية ، و تقوض ازدهارها ، و تتدخل في ديمقراطيتها ، و تتحدى قيمها ، و يرون أيضا أن المشاعر المناهضة للصين توحد بين واشنطن المنقسمة و الحزبية .
و من بين المفاهيم الخاطئة الشائعة أن الاختلافات المتصاعدة بشأن التجارة و التكنولوجيا مسؤولة في المقام الأول عن ارتفاع حدة الأعمال العدائية ، و لكن على الرغم من أهمية الحروب التجارية و التقنية بين الولايات المتحدة و الصين في حد ذاتها ، إلا أنها تشكل عَرَضاً واحدا فقط لانقسام جيوسياسي أعمق و أكثر خطورة يضرب بجذوره في الطموحات الاستراتيجية المتضاربة و الأنظمة السياسية المتباينة .
بالنسبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، فإن السباق مع الصين يدور حول معالجة أوجه عدم المساواة الملحوظة من خلال تسوية مجالات التجارة و التكنولوجيا وتعزيز الموقف الأمريكي كقوة عالمية عليا ، و يريد " شي جين بينج " أيضاً أن يصحح مظالم الماضي و أن ينتهز الفرصة في إعادة الصين إلى مكانتها " المستحقة " بوصفها الدولة المهيمنة في آسيا و في نهاية المطاف العالم ، و لكن الوقت ينفد من " شي " لكي يحقق شيئا من هذا الطموح فيهرب من فخ الدخل المتوسط بسبب الانحدار الديموغرافي ، و انخفاض الإنتاجية ، و انحدار قوة السياسة الخارجية الواثقة ، و إن التحول من التعاون إلى التنافس الاستراتيجي كان سبباً في إثارة مناقشة متزايدة الحِدة حول ما إذا كان العالم على حافة الهاوية بعد اندلاع حرب باردة جديدة ، و يدحض المتشككون هذه الحقيقة ، و لكنهم مخطئون .
و تجدر الإشارة أن هنالك ست حالات تشابه واضحة مع الحرب الباردة ، الأولى : أن المنافسة بين الولايات المتحدة و الصين تدور بين الدولتين الأكثر قوة على مستوى العالم ، إحداهما ديمقراطية ليبرالية و الأخرى شيوعية ، و الثانية : أنها مسابقة على مستوى النظام بالكامل للفوز، و الثالثة : أن الأمر يدور حول القيم و القوة ، و الرابعة : أنه سوف يكون هنالك نضال دائم لعدة عقود من الزمان في سبيل فرض الهيمنة العالمية ، و الخامسة : أنه من المحتمل أن تكون هنالك حالة ثانية من الغضب الجيوسياسي في العالم ، و السادسة : ان كلا من الجانبين لا يريد مواجهة عسكرية شاملة ، باختصار ، ليس هذا هو صراع القوة الأعظم الذي من الممكن إدارته و التحكم فيه .
و هناك بطبيعة الحال اختلافات كبيرة بين البلدين فلقد حلت الصين في محل روسيا باعتبارها التهديد الرئيسي ، و لعبت المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي دوراً كبيراً في المجالين السياسي و العسكري ؛ ولم يكن هناك أي قدر يُذكَر من التجارة بين الكتلتين المتنافسين ، و لكن المنافسة الرئيسية بين الولايات المتحدة و الصين هي المنافسة الاقتصادية ، وهذا يعني أن التجارة و الاستثمار و التكنولوجيا و الصناعات الاستراتيجية تشكل أهمية مركزية في المنافسة اليوم ، و عند أعلى نقطة في هذا الصدد ، كان الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفييتي 40% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة ، و لكن الصين بلغت بالفعل 65% من إجمالي النمو ، و هي تنمو بسرعة ، و بين هذه الدول تشكل الولايات المتحدة و الصين نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ، و إذا عطس أي من هذين العملاقين فإن بقية العالم يصاب بالبرد و هو ما يحدث حرفياً في حالة الصين ، مع استمرار تأثير فيروس كورونا و مساهمته في إهدار الموارد على صحة و رخاء الملايين .
و رغم أن الحرب الباردة الجديدة بدأت تتجسد في مختلف أنحاء العالم ، فسيظل مركز ثقلها الجغرافي يتمثل في منطقة الهند و المحيط الهادئ ، وليس أوروبا ، و ذلك لأن مركز التجارة العالمية انتقل من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ ، الأمر الذي يعكس صعود آسيا وانحدار أوروبا ، فالولايات المتحدة و الصين قوتان من قوى منطقة المحيط الهادئ ، لذا فإن الخصومة بينهما سوف تكون أكثر حدة في الهند و المحيط الهادئ ، و خاصة في البحر، حيث تتصادم مصالحهما و هناك العديد من الدوافع المحتملة لمواجهة عسكرية ، و تُعَد كوريا الشمالية و بحر الصين الشرقي و الجنوبي المرشحين الأكثر ترجيحا ، ولكن تايوان و هونج كونج من المحتمل أن تكون ساحات للصراع أيضا ، و ليس فقط بسبب أهميتها السياسية ، فتايوان دولة منتجة للتكنولوجيا الحيوية بالنسبة للولايات المتحدة و الصين ، و هونج كونج هي البوابة المالية الصينية إلى العالم و الدولار الأميركي ، الذي يظل العملة المهيمنة على التجارة الدولية .
و رغم أن الحرب الباردة أصبحت أدنى من عتبة حرب " ساخنة " كبرى ، و لكنها قد تسفر بسهولة عن حرب ما لم تدار بعناية ، و كثيراً ما تسبق التوترات بين القوى الصاعدة و القوى القائمة صراعا عسكريا أو فترة مطولة من المواجهة و عدم الاستقرار ، و بدون إخماد للشرارة المتقدة ، فإن تصعيد التوترات الصينية الأميركية قد يؤدي إلى تفاقم الحرب الباردة الناشئة سوءاً ، الأمر الذي ينذر بعصر من المنافسة الاستراتيجية المتصاعدة التي قد تؤدي إلى اضطرابات هائلة في التجارة الدولية و النظام العالمي .
و يشير السجل التاريخي للصراع بين الطرفين إلى أنه بالرغم أن الحرب الساخنة ليست حتمية و لكنها احتمال وارد ، و لكن الأرجح أن هذا الصراع المتقيح سوف يستمر بين الولايات المتحدة و الصين ، و الذي سيظل أدنى من عتبة الحرب الكبرى و لكن سيتخلله صراعات بالوكالة ، و خاصة في الفضاء الالكتروني ، و رغم أن هذا قد يكون أكثر تآكل من تفجر ، إلا أنه قد يؤدي إلى فترة مطولة من المنافسة على السلطة العظمى ، و التي قد تدخر المكاسب الناجمة عن أكثر من سبعين عاماً من تحرير التجارة ، و تعطل سلاسل الإمداد العالمية ، و تفريق الإنترنت ، و تقسيم العالم إلى نظامين سياسيين متعارضين .
إن المشكلة الأساسية في العلاقات الأميركية الصينية تتلخص في الأنظمة السياسية و القيم المرتبطة بها ، و التي تتعارض بشكل تام مع هذا الحس ، و التي تفاقمت بفعل شعورها بالاستثنائية ، فمنذ الأزمة المالية التي اندلعت في الفترة ما بين 2008-2009 أصبح قادة الصين أكثر انتقادا لنقاط الضعف الملحوظة في الأنظمة الديمقراطية ، و أكثر إقتناعا بتفوق نموذجهم الاستبدادي ، الذي يميز الاستقرار السياسي و النظام الاجتماعي على حقوق الفرد و حرية التعبير.
و تصبح المشكلة أكثر حدة عندما يشك كل منهما في وجود منافس له يريد فرض عناصر غير مرغوب فيها من نظامه على الآخر أو الترويج لها دوليا ، و هذه التصورات تزيد من حدة التوترات بين الولايات المتحدة و الصين ، مما يزيد من صعوبة حلها ، لقد ظل قادة الصين لفترة طويلة حانقين إزاء ما يرون أنه تدخل غير مبرر في شؤونهم الداخلية و ميول الأميركيين إلى إلقاء المحاضرات عليهم بشأن سلوكهم و نظامهم السياسي ، و لكن الأمر قد انعكس كليا مع انتقاد إدارة ترامب للصين بسبب تدخلها في السياسة الداخلية الأميركية ، و لإدارتها للحرب السياسية ، و محاولة تصدير نموذجها الاستبدادي إلى آخر .
كان الرئيس السابق باراك أوباما عادة يقلل من شأن القوة المتبقية الهائلة التي تتمتع بها الولايات المتحدة ، الأمر الذي غذى بشكل خاص الأسطورة التي تزعم أن صعود الصين أصبح مكبلا سلفا ، و لكن ترامب استولى على أرض نفسية عالية ، فسيطر على موجات الأثير، فأرغم الصين على اتخاذ موقف دفاعي و أثبت أن أي دولة أخرى لا تستطيع أن تضاهي القوة الاقتصادية و المالية و العسكرية التدميرية التي تحت تصرفه ، و الضعف الذي يعتري هذا التوجه يتلخص في ارتباط القوة الأميركية بسياسات " إفقار الجار" العقابية التي تعمل على تنفير الأصدقاء و الخصوم و الإسهام في زعزعة الاستقرار الشامل ، و إن الاعتراف الصريح بأن الولايات المتحدة و الصين خصمان الآن يشكل شرطاً أساسياً لازماً لتحقيق تسوية استراتيجية واقعية تعمل على تقييد خصومتهما و تتجنب أسوأ النتائج .
و من حسن الحظ أننا ما زلنا في موطئ قدم حرب باردة ثانية و بالرغم من إرتفاعها البارد إلا أن الوقت قد حان لاتهام منحنى العداء الحاد و عكس مسار الزخم نحو الصراع ، و هؤلاء الذين يزعمون أن الديمقراطية و الدولة الاستبدادية لا يمكنهم أبداً أن يجدوا التسهيلات المطلوبة و يتجاهلوا دروس التاريخ ، و على الرغم من الخلافات بينهما و عدد قليل من الدعوات الوثيقة ، إلا أن الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي عملا معاً لتجنب اندلاع حرب كبرى أثناء مواجهتهما التي دامت عدة عقود من الزمان .
ترجمة :
جهاد رياض أبوراس
facebook account : Jehad R Aburass